بقلم : خالد العماري
@ammarikh
1-1-1438هـ
نتكلم هنا عن مفردتين،
إحداهما غايةٌ في البساطة والأولية، والأخرى غايةٌ في التعقيد والتركيب ! فالطفولة
في طبيعتها وفي أذهاننا وذكرياتنا هي مرحلة الفطرة والخلقة السوية وأول المراحل
العمرية والعفوية والسجية والمعارف الأولية والسلامة من الحدية والتحيز، كما أن التخطيط
في واقعنا وحياتنا هو عملية متقدمة عميقة تحتاج إلى قدرٍ كبير من الدراية بالواقع
والاستشراف للمتوقع، وربما تحتاج إلى التحليل والتفكيك ومعرفة المقدمات والعمليات
والنتائج وإلى الحنكة والحكمة، وإلى شيء كبيرٍ من الفكر وربما المكر!
كيف نجمع بينهما في
هذا التركيب "التخطيط للأطفال" ؟
هذا التحليل ربما يقودنا إلى نتيجة نظرية أولية تقول : المحافظة على طبائع الأشياء
هو مقصد أعلى عند محاولة الجمع بينهما وبناء علاقة ورابطة عقلية وعملية، بل إن من علائم
النجاج الحيوي أن تكون لدينا القدرة على الجمع العقلي بين الطرفين المتعارضين لا
المتناقضين، ومثالها في موضوعنا هذا : أولية وفطرية الطفولة في مقابل عمق وتركيب
التخطيط، فكيف نحافظ على طبيعة الأطفال، وطبيعة التخطيط في عملٍ مشترك ؟ وللجواب
النظري يمكننا القول بأن النجاح في التخطيط للطفولة هو بالقيام على خطة عميقةٍ
غاية في التفكير والتأمل والبحث والنظر وإعمال الأدوات اللازمة، هدفها الحفاظ على الطفولة
بفطريتها وأوليتها وعفويتها وسلامتها خلقاً وروحاً.
هذا في الإجابة على
سؤال ماذا نريد ؟ لكن قبل ذلك لعلنا
نسأل أنفسنا عن الواقع والمستقبل المتوقع في هذا الموضوع "التخطيط
للطفولة" من هو المؤثر فيه ؟ وما الأطراف الفاعلة ؟ وأيها يؤثر في الآخر ؟ هل
يعتبر الطفل أحد الأطراف المؤثرة ؟ أم من يقوم على شأن الطفولة من المنظمات والشركات
والخبراء؟ قد تكون الإجابة المتبادرة لأذهان الكثير : المنظمات هي المؤثر في
الأطفال كعادة التأثير الهرمي من أعلى الهرم لقاعدته ! لكن حقيقةً لو وسعنا دائرة الوعي
وأعملنا لغة العقل والخبرة والدراية بالمجال الإنساني والمجتمعي لقطعنا بأنه لا يوجد بين البشر مع بعضهم البعض تأثير باتجاهٍ واحد
ومن طرف واحد ألبته! بل إن طبيعة الفعل والتأثير البشري الحياتي عبارة عن عملية
حيوية باتجاهين، فكل أحدٍ من البشر هو مؤثر ومتأثر في الوقت ذاته ولا شك، لكن
العبرة بالأغلب والأكثر والأعلى تأثيراً، وفي موضوعنا هذا يتأثر الأطفال في كل
العالم بكل قرار تتخذه منظمات الطفولة وصناع التوجهات والسياسات سلباً أو إيجاباً،
لكن في المقابل فإن واقع هذه المنظمات قائمٌ على واقع الأطفال، على حالهم من
الحياة والموت والفقر والغنى والجهل والتعلم، ولذلك فإن كل المخططين للطفولة لاغنى لهم عن الدراسات
المسحية والكاشفة لواقع الأطفال ولمستقبلهم الذي يخططون لأجله.
والثمرة العملية من
هذه المقدمة النظرية الفلسفية هو أن الدور الأكبر
في عملية التخطيط للطفولة يقع على عاتق الوسيط بين صناع القرار والأطفال، وهم
شريحة من يقوم على شأن الطفل على أرض الواقع أفراداً وحاضنات ومؤسسات، هم من يقاسم
الطفل نومه ويقظته وطعامه وشرابه وضحكته ودمعته، هم المؤثرون حقاً في عملية
التخطيط على كل المستويات المحلية والإقليمية والعالمية، وأولهم على الإطلاق الأم
ثم الأب ثم من يساعدهما وينوب عنهما في تنشئة الطفل وتربيته في الجانب التعليمي أو
الاجتماعي أو الصحي أو الأمني أو غير ذلك من المجالات.
ولو نظرنا إلى الواقع
لوجدنا أن العالم كله يخطط للطفل عبر منظمات ومؤتمرات ولجان وخبراء، لكن
أحدهم في خانة المؤثر والآخر في خانة المتأثر، بعضهم في طرف الفعل، والبعض الآخر
في طرف ردة الفعل، فعالمياً الأمم المتحدة تخطط للطفل، عبر اليونسكو واليونيسيف والمنظمات
والهيئات واللجان الفرعية الأخرى، وعبر المؤتمرات والتقارير والدراسات والإحصاءات
والتنبؤات؛ ليصل هذا التخطيط لأعمق نقطة في شئون الأطفال المتعلقة بالأفراد
والمؤسسات والمجتمعات على اختلاف هوياتها و واقعها وتطلعاتها.
وبخطٍ شبه موازي نجد شركات
الإعلام والترفية – القوة الناعمة – تخطط بشكل
أبلغ وأعمق لتصل لأعمق نقطة ممكنة في ذهن الأطفال وميولهم ومزاجهم وسلوكهم
وعاداتهم وسمعهم وبصرهم و وعيهم وطريقة تفكيرهم.
هذان المساران هما
الأقوى والأبرز والأوسع تأثيراً في كل عوالم
الطفولة اليوم وبعد اليوم، وبنظرةٍ عجلى في مصروفات اليونيسيف التي تتراوح مابين
3-5 مليار دولار سنوياً، و أخرى في صافي أرباح شركة ديزني التي تتراوح مابين 4-7
مليار دولار سنوياً، تعي حجم العناية البالغة والاهتمام المتقدم بملف الطفولة على
المستوى الدولي، وحجم الأفكار والعلاقات والمشاريع التي انبثقت، وسينبثق المزيد
منها في مستقبل الأيام!
وأما على المستوى
العربي والإسلامي فهناك جهود واجتهادات نتمنى أن
ترقى لمستوى التأثير المطلوب والمبادرة والمبادأة، فإسلامياً : هناك المنظمة الإسلامية
للتربية والعلوم والثقافة "الإيسسكو"، وقد بذلت الكثير ويُعلق عليها
الكثير، ونتمنى أن تثمر جهود القائمين عليها إلى القدرة على المشاركة في صناعة
مستقبل الطفل في العالم الإسلامي، وعربياً هناك المجلس العربي للطفولة والتنمية
لديهم خطط ومبادرات وتقارير ينبغي الاستفادة منها والنظر فيها، ولديهم مجلة علمية
محكمة اسمها "الطفولة والتنمية" من الضروري أن تكون في مكتبة الجهات
المخططة للطفل، وخليجياً هناك مبادرات وجهود كثيرة جداً مهم أن نطلع عليها ونتواصل
معها كمخططين للطفل وأذكر على سبيل المثال لا الحصر المجلة الكويتية المحكمة
"مجلة الطفولة العربية" الصادرة عن الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة
العربية، وقد وصلت الآن إلى العدد السابع والستون على ما أظن.
محلياً : هناك لجنة
وطنية للطفولة التابعة لوزارة التعليم، لديها
بعض الأنشطة والمطبوعات وأذكر أنها أعدت خطة استراتيجية قبل عقد من الزمان، لكن حقيقةً
لا أعلم عن مدى فاعلية هذه اللجنة وقدرتها على مواكبة رؤية السعودية 2030، وإحداث
نوع من العمل المشترك مع المجتمع ومع بقية القطاعات لرفع مكاسب ملف الطفولة،
وتعظيم مصلحة الأطفال والأجيال القادمة.
لكن إجمالاً هناك
جملة من التوصيات لكل المسئولين عن ملف الطفل في أي بلد عربي أو إسلامي، ومنها :
- الانطلاق من مصطلح الفطرة التي فطر
الله الناس عليها على مستوى المفاهيم والقضايا، وتجلية هذا المفهوم بشكل إجرائي
بعيدٍ عن الجدل التاريخي الواقع فيه، حتى تتمكن منظمات الطفولة العربية والإسلامية
والعالمية من الإفادة منه واعتماده في النظر للأطفال على وجه الخصوص ومقاربة
السياسات والتوجهات والرؤى بما يحافظ على هذا الأصل العظيم.
- رفع مستوى الوعي بالجهود
العالمية الرسمية وغير الرسمية، والنظر في آليات واستراتيجيات العمل المشترك
لتحقيق المصالح والمقاصد العليا المشتركة مع حفظ كامل الاعتبارية للهويات
والثقافات المختلفة.
- استثمار
التوجهات والسياسات الأقل تحيزاً لمقاربة المفاهيم والمضامين الإسلامية المرتبطة
بالطفولة.
- تدعيم المنظمات والهيئات والمجالس
واللجان الإقليمية والوطنية برؤى وتوجهات قادرة على الوفاء بهوية الذات وحقوق
الآخر في واقع الأيام ومستقبلها.
- تحفيز
وتعزيز ورفع فاعلية العمل المشترك بين المجتمع والمؤسسات المعنية بالطفولة وبشراكة
كل القطاعات.
- رفع
الوعي العام بقضايا الطفولة والأمومة والأسرة عبر وسائل الإعلام والتواصل
الاجتماعي.
- حث المانحين ورؤوس الأموال على الدعم
والاستثمار في خطط ومشاريع الطفولة، وإنشاء الصناديق المانحة والممولة لهذا المجال.
- إبراز
المشاريع النوعية، وإشراك جميع القطاعات والمؤسسات ذات العلاقة في تطويرها
وتصديرها للعالمية.
- العناية
بملف رأس المال الإجتماعي، والعمل المشترك لتخطيط وإدارة شبكة العلاقات الاجتماعية
بشكل أفضل.
- تبادل
الخبرات، ونمذجة الأعمال النوعية، ودعم مطوري خدمات هذا المجال على مختلف
التخصصات.
- إعادة النظر في البنية التحتية
للتخصصات الجامعية وكيف يمكن أن تولد خبرات وكفاءات تحفز قطاع المال والأعمال على
استثمار وصناعة منافسة في مجالات المعرفة والتعليم والإعلام والتقنية والترفيه.
واخيراً
نقول لكل الطاقات والعقول الفردية المحبة لهذا الميدان والراغبة في تطويره وتنميته
لمستقبل أفضل بإذن الله
ولعلي
بهذا التحليق أهبط لأقرب مساحة يتحرك فيها الأطفال فأخاطب الأفراد المحيطين بهم
والحريصين على مستقبلهم، وأقول ليسأل كلٌ منا نفسه جملة من الأسئلة :
- هل الطفل الذي بداخلك لازال حياً يتنفس؟
هل أنت شغوف بعوالم الطفولة؟ وتتمنى اكتشافها والاقتراب منها أكثر؟ هل اطلعت على
أهم التجارب العالمية والإقليمية والمحلية ؟
- هل نزلت للميدان؟ هل رأيت الأطفال عن
قرب؟ هل تستهويك لغة الطفل؟ هل سألت نفسك يوماً كيف تتطور لغته وتفكيره ووعيه
بالأفكار والأشياء والكون؟ هل يدهشك العالم باختلاف الألوان والألسنة والثقافات
والأحوال؟
- هل عرفت صفتك ومكانتك في لعبة العمل للطفولة؟
هل أنت ضمن الفريق الأساسي؟ ماخانتك اللائقة بك؟ أم أنك في الاحتياط ؟ أم أنك
المدرب؟ أم من الجهاز الإداري؟ أم كبير المشجعين؟ أم أحدهم؟ أم مشجع من خلف الشاشة؟
أم فقط تحبُ أن تلعب في العوالم الافتراضية؟ أم ليس لك علاقة بهذه اللعبة ألبته؟
- ما فكرتك التي تريد تقديمها للأطفال بالضبط؟
ما؟ ومن؟ ولماذا؟ وكيف؟ وماذا لو؟ هل هي أقرب إلى الرؤيا أم إلى الأحلام؟ إلى
الحقيقة أم إلى الأوهام؟ ما القيمة المضافة على ماهو موجود في مجتمعك؟ ما ما التعديل
الذي ستجريه على الأفكار الناجحة التي سبقتك؟ هل تأملتها جيداً؟ هل رأيتها في
منامك؟ هل كتبتها أكثر من مرة؟ هل تكلمت بها وأخبرت من حولك عنها؟
- هل اطلعت على الأرقام والإحصاءات
المرتبطة بها؟ هل أجريت دراسة جدوى أولية من الناحية المالية والاجتماعية على
الفكرة او المشروع؟ هل خضت تجربة لتحقيق هذه الفكرة؟
يجب على كل من دخل أو
يحاول الدخول لعوالم الطفولة أن يعلم أن المجتمع والوطن والأمة لا تريد معلماً لا يتعلم من الأطفال، ولا مربياً
لا تؤثر فيه أحوال ومواقف الأطفال، ولا من يرسل ولا يستقبل، لانريد من ينقل
الأطفال لفكره وأولوياته واجتهاداته أرادوا ذلك أم لم يريدوا، لا نريد من يفرض
عليهم تجربته الشخصية بإطلاقٍ ويحاكمهم عليها، لا نريد من يخطط لزمان غير زمان
الأطفال وحالٍ غير حالهم، لا نريد من يهتم بالإجراءات والماديات والبيروقراطيات
والشكليات أولاً، والطفل ثانياً أو ثالثاً أو آخراً !
نحن اليوم نبحث عمن
تدهشه البالونات كما تدهش الأطفال، لا من ينفخ بالونة الوهم للمجتمع أو للمسئولين
على الأطفال، نريد من يحاول قراءة شخمطة الأطفال لا من يخطط لهم بشخمطته على أوراق
لا تغني ولا تسمن من جوع، نريد من يمسح على رؤوس الأطفال وهو يعلم أن هؤلاء
مخلوقات فطرية حديثةُ عهدٍ بربها، لا من يمسح على رؤوسهم ليقال ناشطٌ في شأن
الأطفال ! وقد قيل، نريد من يُشعر الأطفال بأن هناك مطالب عالية دينية وحياتية
واجتماعية وأخلاقية ووطنية واقتصادية وعالمية لابد أن نشترك معهم في التخطيط لها والتفكير فيها ومحاول
الاقتراب منها لتحقيق أعلى نفع وخير وفائدة لنا وللبشرية جمعاء.
لو
وجدنا هؤلاء النابهين في عالم الطفولة والملهمين في عوالم الأطفال، عندها لن نعدم
الطرق والنماذج والخبرات للتخطيط للأطفال والعمل في ميدان الطفولة الرائع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق